ما بين القمر والمحيط | حوار مع السينابتيك

مغنّي الراب الأردنيّ ذو الأصول الفلسطينيّة ليث الحسيني، السينابتيك

 

 * تجربتي الفنّيّة غير مفصولة عن تجربتي الشخصيّة. 

* أستطيع التنبّؤ بالأفضل لفنّ الراب؛ فهناك الكثير من التطوّر والتقدّم فيه.

* من المفارقة أن تصبح الشخص الّذي لا تريد أن تكونه.  

 

"في نهاية هذه الرحلة الغريبة جدًّا خرجنا ببعض الدروس، بعض الجروح، والكثير الكثير الكثير من الجلد السميك". هكذا افتتح ليث الحسيني، مغنّي الراب الأردنيّ ذو الأصول الفلسطينيّة، أغنيته «القمر والمحيط» (2022)، ليصف عصارة تجربته الفنّيّة والشخصيّة؛ إذ إنّ الأخيرة طاغية في جميع أغنياته، وتمكّننا من سماع صوت ذهنه بقدر صوت حنجرته؛ معبّرًا عن حالات إنسانيّة وجوديّة، لم يحبّها الناس فحسب، بل تماهوا معها ليشكّلوا جمهورًا واسعًا، أفضّل أن أسمّيه مجتمعًا عابرًا للجغرافيا.

في هذا الحوار الّذي تُجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع ليث الحسيني، نتحدّث عن الفنّ بوصفه نقطة اشتباك مع الذاكرة والذات، إلى جانب كونه تعبيرًا عن سرديّة سياسيّة أو مجتمعيّة، عن صعوبة الطريق والضرائب المرافقة للتمرّد على السيناريو الّذي رسمه الآخرون لنا، عن نقاط التحوّل في حياتنا، والشبابيك الّتي تُفْتَح لنا للخروج من حياة لا نريدها، والمضيّ قُدُمًا نحو حياة نريدها.

 

فُسْحَة: بعد مرور سنوات من انطلاق ’سينابتيك‘، كيف تقيّم تجربتك الفنّيّة بأثر رجعيّ؟

ليث: تجربتي الفنّيّة غير مفصولة عن تجربتي الشخصيّة، الموسيقى كانت جزءًا من حياتي منذ كنت صغيرًا، معها ومن خلالها تعرّفت على أشخاص، وأماكن، وعوالم جديدة، واستطعت بفضلها أن أفهم ذاتي. لذلك، أصفها بأنّها تجربة غنيّة ومثيرة للاهتمام، منحتني مستوى نظر استطعت بفضلها رؤية زوايا وأمور لا يراها الآخرون.

 

فُسْحَة: تحدّثت عن وجود الموسيقى في حياتك منذ صغرك، هل تحكي لنا أكثر عن هذه الجزئيّة؟

ليث: في صغري كنت من الأولاد المشاغبين بسبب مشاكل في التركيز، كان لديّ حياة اجتماعيّة مليئة بالأصدقاء، لكنّني لاحقًا بدأت بتناول «الريتالين»، وهو دواء لفرط الحركة وضعف التركيز، وبدأت حياتي بأخذ منحًى مختلف كلّيًّا؛ إذ اضطررت إلى التضحية بأشياء كثيرة خلال تلك الفترة، بسبب القلق الّذي كان أحد الأعراض الجانبيّة لـ «الريتالين»، إذ جعلني إنسانًا مختلفًا لا يشبهني، خائفًا من أن يتدفّق القلق من داخلي في أيّ لحظة. لهذا اخترت أن أنعزل وأودّع حياتي الاجتماعيّة، لكنّ الشيء الوحيد الّذي بقي معي هو الموسيقى، لذلك أعتبرها رفيقتي وشاهد العيان على كلّ مجريات حياتي، والمعيار الّذي أقيس من خلاله ثبات باقي الأمور.

 

 

فُسْحَة: كيف تصف تلك المرحلة؟ وكيف تجاوزتها؟

ليث: كنت أدرس الطبّ، وأصنع الموسيقى طوال الوقت داخل غرفتي، الّتي اعتقدت لفترة أنّها المكان الوحيد في الحياة، إلّا أنّ حلمًا كان يطلّ على العالم الخارجيّ مثل شبّاك. كنت أحلم بأن أصبح فنّانًا مشهورًا، وفجأة شعرت بأنّ هذا الشبّاك انفتح، ذهبت إليه دون مواربة، تاركًا خلفي دراسة الطبّ وهاجس إرضاء مَنْ حولي، فبعد فترة من الاغتراب عن ذاتي، قرّرت أن أسمح لها أن تكون ما تريده.

 

فُسْحَة: ما أوّل خطوة خطوتها عند اتّخاذك هذا القرار؟

ليث: جئت إلى فلسطين، وتعلّمت درسًا مكثّفًا عن الحياة الّتي كانت متوقّفة بالنسبة إليّ وأنا أستعمل «الريتالين»، عدت مجدّدًا لاستكشاف معنى الصداقة والحبّ، وراكمت تجربة حياتيّة حقيقيّة تحمل ملامح الخلاص، وكان الفضل الأكبر في هذا للموسيقى؛ إذ كانت مثل الهديّة الّتي أخرجتني من مكان بائس  مميت إلى غمار الحياة.

 

فُسْحَة: لماذا اخترت فلسطين؟

ليث: عندما أنهيت دراستي الجامعيّة، أصبح بإمكاني أن أتفرّغ تمامًا للفنّ، لكنّ هذا التفرّغ كان يجب أن يعود عليّ بدخل مادّيّ يمكّنني من تدبّر أموري الحياتيّة، مثل السكن والمصروف اليوميّ، ويمكّنني أيضًا من أن أثبت لعائلتي ذلك، خاصّة بعدما تركت مجال الطبّ، ولهذا اخترت فلسطين؛ لأنّها كانت المكان الوحيد الّذي أستطيع فيه تأمين مصدر دخل يكفي، بسبب الجمهور الواسع الّذي أحظى به هناك.

 

فُسْحَة: يبدو هذا مثيرًا للاهتمام، لا سيّما أنّ فنّك لا يطرح سرديّة سياسيّة واضحة تحاكي القضيّة الفلسطينيّة، بخلاف معظم مغنّي الراب المحلّيّين... حدّثنا أكثر عن هذه الجزئيّة.

ليث: صحيح، لا توجد سرديّة سياسيّة واضحة في الأغاني الّتي أكتبها، لأنّي أصنع الموسيقى من وحي تجربتي الشخصيّة الإنسانيّة، الّتي تشير نحو الأحداث الّتي مررت بها، والمشاعر داخلي؛ فعلى الرغم من أنّني أنتمي إلى عائلة فلسطينيّة مسيّسة بامتياز، لكن لا أشعر بأنّ السياسة تلهمني، خاصّة أنّها أصبحت مُسْتَهْلَكة بشكل كبير، وأنا لست من الفنّانين الّذين يحاولون تحميل الفنّ مسؤوليّات توعويّة وثقافيّة، أعتقد أنّ الفنّ في حدّ ذاته هدف، وليس وسيلة تفضي إلى شيء آخر.

 

 

فُسْحَة: لديّ فرضيّة مفادها أنّ تجاربنا الشخصيّة والذاتيّة هي أيضًا حيّز مشتبك مع الحالة السياسيّة، ما رأيك في ذلك؟

ليث: أتّفق تمامًا مع هذه الفرضيّة، لا يمكن الفصل بين الشخصيّ والسياسيّ. بصفتي شخصًا يعيش في فلسطين منذ ثلاثة أعوام، ويصطدم يوميًّا مع سياق تَحْكُمُه السياسة، عندما أكتب أغنية تحاكي تجاربي الشعوريّة والذهنيّة، لا تكون السياسة بعيدة؛ فهي تؤثّر في تشكيل هذه التجارب. لكن بشكل عامّ أميل إلى نوعيّة الموسيقى الّتي لا تحمل سرديّة سياسيّة واضحة، بقدر ما تروي قصصًا شخصيّة، ربّما لأنّ الحياة فرضت عليّ معارك منذ جيل الثالثة عشرة، وكانت معارك خاصّة جدًّا بعيدة عن الوضع السياسيّ العامّ. وكما ذكرت سابقًا، كنت قد بدأت بتناول «الريتالين»، والتعامل مع القلق الناتج عنه الّذي أدّى إلى محو حياتي الاجتماعيّة. بصراحة، أشعر أحيانًا بأنّ تلك الفترة كانت موتًا مستقطعًا بين حياتين: الأولى قبل «الريتالين»، والثانية عندما قرّرت تركه نهائيًّا.

 

فُسْحَة: حسب رأيك، ما الّذي يجعل الكثيرين يتواصلون مع أغانيك ويحبّونها، رغم أنّها تتحدّث عن تجاربك الوجوديّة أنت بخاصّة؟

ليث: أنا أؤمن بأنّ البشر يتشابهون كثيرًا بالمخاوف والتساؤلات والمشاعر، كأنّنا نمتلك الـ ’سوفت وير‘ ذاته، مع بعض الاختلافات بالتجارب، فضلًا على أنّني حين أكتب كلمات أغنياتي، لا أحاول أن أتكلّف أو أبني صورة معيّنة عن نفسي ترضي غروري، ببساطة أنا أكتب ما يشعرني بالرضا. أعتقد أنّ هذا الأمر يجعل كلماتي صادقة، وقادرة على اختراق تلك الهوّة، بين حقيقة الإنسان وما يحاول أن يكونه، أقصد الأقنعة الاجتماعيّة.

 

فُسْحَة: ذكرت موضوع كتابة كلمات الأغاني، وقلت إنّه تلقائيّ وغير متكلّف، هل تحدّثنا أكثر عن فعل الكتابة؟ ما مصادر إلهامك؟

ليث: في الحقيقة، أنا لا أفكّر كثيرًا عندما أقرّر الكتابة، أمسك القلم، وسرعان ما تبدأ الكلمات بالتدفّق، يمكنني القول إنّ فِعْل الكتابة يسبق التفكير، إذ إنّني بعدما أنهي كتابة أغنية ما، أعود لقراءتها، وأفهمها بأثر رجعيّ؛ فأفهم ذاتي من خلالها، كأنّها مرشد يدلّني على الطريق.

 

فُسْحَة: إذن، هل تعتقد أنّ كتابة الأغاني وصناعة الموسيقى فعلان استشفائيّان؟

ليث: بكلّ تأكيد، إنّه خلاصي الأخير.

 

 

فُسْحَة: ما سبب استحضار عوالم الطبيعة في أغانيك مثل القمر والمحيط؟

ليث: أحبّ التشبيه والاستعارة. القمر والمحيط مثلًا، تعبّر عن القطبيّة بين القاع والقمّة، وهي القطبيّة الّتي أحاول أن أُوازنها طوال الوقت.

 

فُسْحَة: هل تحدّثنا أكثر عن هذه القطبيّة في التنقّل بين القاع والقمّة؟

ليث: أمريكا كانت المحطّة الأخيرة في عالم الطبّ؛ إذ ذهبت إلى هناك للتدرّب، وعملت في أحد المستشفيات. أتذكّر الآن أنّ الاكتئاب بلغ أوجه في تلك الفترة؛ فقد تحوّلت إلى طبيب يعطي الأدوية تمامًا مثل الطبيب الّذي كان يعطيني الدواء، شعرت بأنّه من المفارقة أن تصبح الشخص الّذي لا تريد أن تكونه، خاصّة أنّني درست الطبّ لأكمل في مسار الطبّ النفسيّ؛ لعلّي أفهم ذاتي أكثر؛ لأنّني أشعر بأنّ الأطبّاء لم يفهموني. لكنّني تعلّمت أنّ ثمّة طريقة أخرى لفهم ذاتي، وهي الموسيقى؛ لذلك قرّرت أن أترك كلّ شيء خلفي، وأذهب نحو شغفي.

 

فُسْحَة: أعتقد أنّك من الأشخاص الّذين خرجوا عن السيناريو المكتوب لهم؛ فقد قمت بنقلة نوعيّة في حياتك، ليس على مستوًى مهنيّ فحسب بل على مستوًى يوميّ ووجدانيّ. هل كان ثَمّ ضرائب لهذه النقلة؟

ليث: بالتأكيد، عندما تركت الطبّ، وأوقفت «الريتالين»، شعرت كأنّني أقف على خشبة في منتصف المحيط، كان هناك فجوة بيني وبين الناس؛ بين حقيقتي وما أعكسه؛ بسبب انقطاعي عن الحياة لفترة طويلة، شعرت كأنّني في حاجة إلى إعادة تفعيل ذاتي اجتماعيًّا ونفسيًّا وسط كلّ مشاعر الضياع والتيه المحيطة. تزامنت هذه الحالة مع عملي لألبوم «القمر والمحيط»، وخرجت من هذه التجربة مُحَمَّلًا بالدروس الصعبة والجلد السميك؛ فأنا من نوع الأشخاص الفضوليّين الّذين يحبّون خوض التجارب؛ لهذا أذهب إليها بكلّي، دون تردّد واعتبارات.

الآن، يمكنني أن أقول إنّني خرجت من التجربة مُنْهَكًا ومُتْعَبًا وممتلئًا بالجروح والضربات، الّتي تحتاج وقفة مع الذات لاستيعابها ومن ثَمّ معالجتها، لكنّ هذا جعلني أتعرّف على نفسي أكثر، وأعيد بناء ذاتي من جديد، بالطريقة الّتي منحتني شعورًا باستعداديّة إكمال مسيرتي بلا شوائب وسواد، وبقلب منفتح موجود في مكانه دون أيّ انحرافات.

 

 

فُسْحَة: دعنا نتحدّث عن المستقبل، كيف ترى مستقبلك الفنّيّ ومستقبل الراب، بشكل عامّ، في العالم العربيّ؟

ليث: بصفتي شخصًا متابعًا لمجال الراب منذ اثني عشر عامًا، أستطيع التنبّؤ بالأفضل لهذا الفنّ؛ فهناك الكثير من التطوّر والتقدّم فيه، وهناك الكثير من المغنّين المحترفين، سواء اتّفقت معهم أو لا؛ فكلّ مغنٍّ له جمهوره ورؤيته وتطلّعاته، ولا يوجد في الفنّ صحيح وخطأ. أمّا على صعيد شخصيّ فسأبقى محافظًا على رؤيتي وتطلّعاتي، وعمل ما أحبّ بشكل حقيقيّ دون تكلّف.

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.